فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الرابع والتسعون بعد المائتين

وهو من شواهد س‏:‏ الكامل

الواهب المائة الهجان وعبده *** عوذا تزجّي خلفها أطفالها

على أنه قد يجعل ضمير المعرّف باللام في التابع مثل المعرّف باللام؛ فإنّ قوله‏:‏ عبدها بالجرّ معطوف على المائة، وهو مضاف إلى ما ليس فيه أل‏.‏ واغتفر هذا لكونه تابعاً، والتابع يجوز فيه ما لا يجوز في المتبوع‏.‏

قال أبو بكر بن السرّاج في باب العطف‏:‏ ومما جاء في العطف لا يجوز في الأوّل قول العرب‏:‏ كلّ شاة وسخليها بدرهم؛ ولو جعلت السّخلة تلي كلّ، لم يستقم‏.‏

ومن كلام العرب‏:‏ هذا الضارب الرجل وزيدٍ، ولو كان زيد يلي الضارب لم يكن جرّ‏.‏ وينشدون هذا البيت جرّاً‏.‏

الواهب المائة الهجان وعبدها وكان أبو العبّاس المبّرد يفرق بين عبدها وزيد يقول‏:‏ إنّ الضمير في عبدها هو المائة، فكأنه قال‏:‏ وعبد المائة؛ ولا يستحسن ذلك في زيد ولا يجيزه‏.‏ وأجازه سيبويه والمازنيّ، ولا أعلمهم قاسوه إلاّ على هذا البيت‏.‏

وقال المازنيّ‏:‏ إنّه من كلام العرب‏.‏ والذي قاله أبو العبّاس أولى وأحسن‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ قد غلط سيبويه في استشهاده بهذا، لأنّ العبد مضاف إلى ضمير المائة، وضميرها بمنزلتها؛ وهذا جائز بإجماع، وليس مثل الضارب الرجل وعبد الله، لأن عبد الله علم كالفرد، لم يضف إلى ضمير الأوّل فيكون بمنزلته‏.‏

وإنّما احتجّ سيبويه بهذا بعد أن صحّ عنده بالقياس جواز الجرّ في الاسم المعطوف‏.‏ وأنشد البيت ليري ضرباً من المثال في الاسم المعطوف‏.‏ لأنّه حجّة له، لا أنّه ليس يجور فيه غيره‏.‏ هذا كلامه‏.‏

ومعنى البيت أنّ هذا الممدوح يهب المائة من الإبل الكريمة، ويهب راعيها أيضاً، وهو المراد من العبد‏.‏ وخصّ الهجان لأنه أكرمها‏.‏و الهجان‏:‏ البيض؛ قال الجوهريّ‏:‏ هو من الإبل الأبيض، يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع؛ وقال الأصمعيّ‏:‏ الهجان‏:‏ الكرام، وأصل الهجان البياض، وهي تكون للواحد والجمع، وربّما جمع هجائن كما قالوا شمال وشمائل‏.‏ وعوذ‏:‏ حال من الهجان، وهو جمع عائذ بالعين المهملة والذال المعجمة؛ وهذا جمع غريب، ونظيره حائل وحول وفاره وفره‏.‏

قال ابن الأثير في النهاية‏:‏ العائذ‏:‏ الناقة إذا وضعت وبعد ما تضع أياماً حتّى يقوى ولدها‏.‏

وقال شارح ديوان الأعشى‏:‏ العوذ‏:‏ الحديثات النتاج قبل أن توفى خمس عشرة ليلة، ثم هي مطفل بعده‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ هي الحديثة النتاج، كان معها ولد ولم يكن‏.‏ قال الأعلم‏:‏ وسمّيت عائذاً لأنّ ولدها يعوذ بها لصغره، وبني على فاعل لأنّه على نية النسب لا على ما يوجب التصريف، كما قالوا عيشة راضية‏.‏ وتزجيّ‏:‏ بالزاي المعجمة والجيم، أي‏:‏ تسوق، والتّزجية‏:‏ السّوق، ومثله الإزجاء‏.‏

وروي بدله‏:‏ ترشّح والترشيح‏:‏ التربية، يعني إذا تخلّفت أولادها وقفت وحنّت حتّى يلحق أولادها بها فتعذّيها، وكذلك التزجية‏.‏ وقيل إنّما تكون التزجية من بين يديها‏.‏ وفاعل تزجّي ضمير العوذ، والجملة صفة لها، وأطفالها مفعول تزجيّ‏.‏

وهذا البيت من قصيدة للأعشى ميمون - وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين في أوائل الكتاب - وقد استعمل هذا المعنى في شعره كثيراً، منها قوله‏:‏ الكامل

الواهب المائة الهجان وعبده *** قطناً تشبّهها النّخيل المكرعا

القطن والقطين‏:‏ أتباع الملك؛ وهو حال من العبد ‏.‏ وتشبّهها بالخطاب‏.‏ والمكرع ، بوزن اسم الفاعل‏:‏ النّخيل التي على جول الماء‏.‏

ومنها قوله‏:‏ المتقارب

هو الواهب المائة المصطف *** ة إمّا مخاضاً وإمّا عشارا

وقال أيضاً في قصيدة نونية‏:‏ المتقارب

هو الواهب المائة المصطف *** ة كالنخل زيّنها بالرّجن

والرّجن ، بفتح الراء المهملة وبالجيم، قال في الصحاح‏:‏ قال الفرّاء‏:‏ رجنت الإبل ورجنت أيضاً بالكسر وهي راجنة؛ وقد رجنتها أنا وأرجنتها‏:‏ إذا حبستها لتعلفها ولم تسرّحها‏.‏

وقد سبق الأعشى في هذا المعنى إمّا بشر بن أبي خازم، وإمّا أوس بن حجر، فإنهما متعاصران وكانا قبله‏:‏ قال الأوّل يمدح عمرو بن أم أناس‏:‏ الكامل

والمانح المائة المعكاء يشفعه *** يوم النّضار بأخرى غير مجهود

والمعكاء ، بكسر الميم وسكون العين المهملة بعدها كاف، قال ابن الأنباريّ في المقصود والممدود‏:‏ يقال أعطاه مائة معكاء‏:‏ إذا أعطاه مائة من الإبل سماناً غلاظاً‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وتلك القصيدة يمدح بها الأعشى قيس بن معد يكرب الكنديّ‏.‏ وهذا مطلعه‏:‏ الكامل

رحلت سميّة غدوةً أجماله *** غضبى عليك فما تقول بدا لها

هذا النّهار بدا لها من همّه *** ما بالها باللّيل زال زوالها

سفهاً وهل تدري سميّة ويحه *** أن ربّ غانية قطعت وصالها

ثم قال‏:‏

وسبيئةٍ ممّا تعتّق بابلٌ *** كدم الذّبيح سلبتها جريالها

وغريبةٍ تأتي الملوك حكيمةٍ *** قد قلتها ليقال من ذا قالها

ثم وصف ناقته فقال مخاطباً لها‏:‏

ولقد نزلت بخير من وطئ الحصى *** قيسٍ فأثبت نعلها وقبالها

ما النيل أصبح زاحراً من مدّه *** جادت له ريح الصبّا فجرى لها

زيداً بمصرٍ يوم يسقي أهله *** وغدا تفجّره النّبيط خلالها

يوماً بأغزر نائلاً منه إذ *** نفس البخيل تجهّمت سؤالها

الواهب المائة الهجان وعبده ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

والقارح الأحوى وكلّ طمرّةٍ *** ما عن تنال يد الطويل قذالها

وقال في آخر القصيدة‏:‏

وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومةٌ *** خرساء يخشى الذّائدون نهالها

كنت المقدّم غير لابس جنةٍ *** بالسّيف تضرب معلماً أبطالها

وعرفت أنّ النفس تلقى حتفه *** ما شاء خالقها المليك قضى لها

قوله‏:‏ رحلت سميّة الخ ، الأجمال‏:‏ هي الجمال، ورحلته‏:‏ حمّلتها، وسميّة‏:‏ اسم امرأة‏.‏

وقوله‏:‏ هذا النهار بدا لها الخ ؛ قال أبو عليّ في الإيضاح الشعريّ رواه أبو الحسن‏:‏ هذا النّهار بالنصب، وكذلك رواه أبو عمرو الشّيبانيّ، فأمّا من رفع النهار فجعله وصفاً لهذا وحذف الراجع من خبر المبتدأ، كأنه قال‏:‏ هذا النهار بدا لها فيه‏.‏ فأمّا فاعل بدا فيكون ضمير المصدر، أي‏:‏ بدا البداء، وقوله‏:‏ من همّها ، حال من هذا الفاعل، ويجوز على قول الأخفش بزيادة من في الواجب أن يكون مجرورها فاعل بدا‏.‏

ومن استجاز حذف الفاعل مّمن خالف سيبويه أجاز أن يكون من همّها صفة للفاعل المحذوف، كأنه قال‏:‏ بدا لها بداءٌ من همّها‏.‏ ومن نصب النهار ففيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون على حدّ زيداً مررت به‏.‏

والآخر‏:‏ أن يكون ظرفاً لبدا، كأنه قال‏:‏ بدا لها البداء من همّها في هذا النهار‏.‏

ويجوز أن يكون قوله‏:‏ هذا، فيمن نصب النهار إشارة إلى الارتحال، كأنه لّما قال‏:‏ رحلت قال‏:‏ هذا الارتحال بدا لها النهار، فيكون في بدا ذكر يعود إلى المبتدأ الذي هو هذا‏.‏ وكان المعنى عليه، لأنّ المعنى هذا الارتحال والمفارقة قد بدا لها في النهار، فما بالها بالليل يعتادنا خيالها، هلاّ فارقتنا بالليل كما فارقتنا بالنهار‏.‏

فأمّا فاعل زال فيمن نصب زوالها، فجائز أن يكون الهمّ؛ لأنّ ذكره قد تقدّم، كأنه قال‏:‏ زال الهمّ زوالها، فدعا عليها بأن يزول الهمّ زوالها، أي‏:‏ زوال همّها معها حيث زالت وقد حكي هذا القول عن أبي عمرو الشيبانيّ‏.‏ ويجوز أن يكون الفاعل اسم الله تعالى كأنه قال‏:‏ زال الله زوالها‏.‏ من قوله زلته فلم يزل، وعلى هذا قول ذي الرّمّة‏:‏ الطويل

وبيضاء لا تنحاش منّا وأمّه *** إذا ما رأتنا زيل منّا زويلها

انتهى كلام أبي عليّ، وكأنه لم يطّلع على ما للعلماء بالشعر في هذا البيت‏.‏

وقد جمعه حمزة بن الحسن في كتاب التّنبيه على حدوث التصحيف قال‏:‏ قوله‏:‏ هذا النهار بدا قال الأخفش‏:‏ النهار ظرف، أي‏:‏ في هذا النهار‏.‏

وقوله‏:‏ من همّها ما بالها بالليل قال بعضهم‏:‏ يقول‏:‏ هذا الارتحال الذي يرى لنا من همّها في النهار، فما بالها بالليل إذا نمنا ألمّ بنا خيالها‏.‏

وقال آخر‏:‏ يقول‏:‏ هذا الهمّ بدا لها نهاراً، والهمّ ما همّت به من مفارقته وصرمه‏.‏ وقال آخر‏:‏ هي بالنهار تخاف العيون وتراقب الوشاة، فما بالها بالليل أيضاً بمثل تلك الحال لا تزورني وقد زال عنها ما تحاذر‏.‏

وقال آخر‏:‏ إنّما ردّه على آخر البيت الأول، وهو قوله‏:‏ فما تقول بدا لها، ثم قال مفسراً لذلك‏:‏ بدا لها أن همّت بصرمي نهاراً، فما بالها بالليل؛ أي‏:‏ ما لنا ولها بالليل لسنا ننامه شوقاً إليها وذكراً لها‏.‏

وقوله‏:‏ زال زوالها قال الأصمعي‏:‏ هو دعاء على المرأة، أي‏:‏ هذه المرأة لا أكاد أراها بالنهار فإذا جاء الليل إذ أتاني خيالها فما بالها‏؟‏ ثم دعا عليها فقال‏:‏ زال زوالها، ومعناه لا زال همّها يزول زوالها، أي‏:‏ يزول معها، أراد أنّه لا يفارقها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا دعاء على الهمّ، ومعناه زال الهمّ معها حيث زالت‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ هي كلمة يدعى بها، فتركها على حالها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو دعاء على الخيال، ومعناه أذهب الله خيالها عنّي كما ذهبت هي فأستريح‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ هو دعاء على الليل، ومعناه أزال الله الليل الذي نقاسي فيه منه ما نقاسيه مع صرمها لنا نهاراً كما زالت سميّة‏.‏ وهذا كما تقول‏:‏ هلك فلان، أي‏:‏ أهلكه الله‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ قال بعضهم‏:‏ زال هنا بمعنى أزال، وهي لغة قوم من العرب، تقول‏:‏ زلت الرجل عن مقامه بمعنى أزلته، وعليه قول ذي الرّمّة‏:‏ الطويل زيل منها زويلها فكأنه قال‏:‏ ما بال هذا الليل أزالها‏.‏

ويحكى هذا القول بعينه عن أبي عبيدة‏.‏ وقال الأصمعيّ في بعض الحكايات عنه‏:‏ هذا مقلوب، يجب أن يقول زالت زواله، أي‏:‏ زوال النهار، ثمّ قلب الكلام كما قال الشاعر‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏كم *** كان الزناء فريضة الرجم

وقال بعضهم‏:‏ هو خيرٌ ليس بدعاء، ومعناه ما بال حظّنا من سميّة بالليل قد أزل كما زالت، وإنّما يريد تأخر الخيال عنه الذي كان يقوم مقامها فيستريح إليه‏.‏ وعلّة تأخرّ الخيال عنه أنه سهر لفراقها فلم ينم فيبصره‏.‏

قال‏:‏ وقد يجوز أن يكون دعاءً على الليل إذ فاته حظّه فيه منها‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ أنا أرويه‏:‏ زال زوالها بالرفع، وإن كان إقواء؛ وعلى هذا يكون دعاءً على المرأة بالهلاك وأن تذهب من الدّنيا، والأعشى شاعر أفحل من أن يقوي‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو دعاءٌ منه لسميّة لا عليها، زال ما تهمّ به من صرمنا في النّهار والليل، كما زالت هي، أي‏:‏ زال عنّا همّها بذلك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو إخبار عن الليل وفيه تقدير قد، أي‏:‏ قد زال زوالها، أي‏:‏ كأنّ الليل الذي كان لنا منها قد زال، وهذا كما تقول‏:‏ مالي مع فلان ليلٌ ولا نهار، وإنما تعني مالي حظّ من الليل ولا النّهار، ولست تعني أنّ هناك نهاراً ولا ليلاً‏.‏ انتهى ما أورده حمزة‏.‏

وقوله‏:‏ وسبيئة مّما تعتّق بابل الخ ، السّبيئة‏:‏ الخمر، فعليه بمعنى، من سبأت الخمر سّبئاً‏:‏ إذا اشتريتها لتشربها، والاسم السّباء بالكسر على فعال، والسّبّاء‏:‏ الخمّار وزناً ومعنى‏.‏ والجريال ، بكسر الجيم وبعد الراء مثنّاة تحتيّة‏.‏

قال الجواليقي في المعرّبات‏:‏ هو صبغ أحمر، ويقال‏:‏ جريان بالنون، وقيل هو ماء الذهب وذهب الأصمعيّ أنّه رومي معرب، وروي لي عن الأصمعي عن شعبة عن سماك بن حرب، عن يونس بن متّى راوية الأعشى قال‏:‏ قلت للأعشى‏:‏ ما معنى قولك‏:‏ سلبتها جريالها ‏؟‏ قال‏:‏ شربتها، حمراء وبلتها بيضاء فسلبتها لونها‏.‏ يقول‏:‏ لما شربتها نقلّت لونها إلى وجهي فصارت حمرتها فيه‏.‏ وهذا المعنى أراد أبو نواس بقوله‏:‏ البسيط أجدته حمرتها في العين والخدّ وربّما سميّت الخمر جريالاً‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقوله‏:‏ وغريبةٍ تأتي الملوك حكيمةٍ أي‏:‏ ربّ قصيدة غريبة في أسلوبها محكمة‏.‏

وقوله‏:‏ ولقد نزلت الخ ، قال شارح الديوان ابن حبيب‏:‏ يجوز ضم التاء بالتكلم وكسرها بخطاب الناقة، والمراد لقد نزلت برجلي فأثبت نعلها، أي‏:‏ قضى حوائجي‏.‏ وتجهمت‏:‏ بمعنى استثقلت‏.‏

وقوله‏:‏ والقارح الأحوى الخ ، هو بالجرّ عطف على المائة الهجان‏.‏ والقارح‏:‏ ما جاوز خمس سنين من ذوات الحافر‏.‏ والأحوى‏:‏ ما خالط لونه لون آخر إذا كان كميتاً مثل صدأ الحديد، وقيل حمزة يخالطها سواد‏.‏ والطمّرة ، بكسرتين وتشديد الراء‏:‏ المستفز للوثب‏.‏

وقوله‏:‏ وإذا تجيء كتيبة الخ ، الكتيبة‏:‏ الجيش، والخرساء‏:‏ التي لا يسمع فيها قعقعة سلاح من كثرة الدروع، وملمومة‏:‏ مجموعة‏.‏ والجنّة ، بالضم الوقاية‏.‏ يريد أنه يهجم في الحرب على الإبطال، غير مكترث بلبس وقاية من السلاح‏.‏ وهذا غاية في التهورّ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الخامس والتسعون بعد المائتين

البسيط

وليس حاملني إلاّ ابن حمّال

على أنّه قيل النون في حاملني هو نون التنوين، وقيل نون وقاية، وكلاهما شاذّ وقبل الرواية يحملني لا حاملني‏.‏

وهذا عجز، وصدره‏:‏

ألا فتى من بني ذبيان يحملني

وهو من أبيات لم أرها إلاّ في كامل المبّرد، قال فيه‏:‏ أنشدنا أبو محلّم السّعديّ‏:‏

لطلحة بن حبيبٍ حين تسأله *** أندى وأكرم من فند بن هطّال

وبيت طلحة في عزّ ومكرمةٍ *** وبيت فندٍ إلى ربقٍ وأحمال

ألا فتىً من بني ذبيان يحملني‏؟‏ *** وليس يحملني إلاّ ابن حمّال

فقلت‏:‏ طلحة أولى من عمدت له *** وجئت أمشي إليه مشي مختال

مستيقناً أنّ حبلي سوف يعلقه *** في رأس ديّالة ورأس ذيّال

قوله‏:‏ إلى ربق وأحمال ، أراد جمع حمل على القياس، كما تقول في جمع باب فعل‏:‏ جمل وأجمال، وصنم وأصنام‏.‏

وقوله‏:‏ ألا فتىً من بني ذبيان يحملني ، يعني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر‏.‏

وأنشد بعضهم‏:‏ وليس حاملني إلاّ ابن حمّال

وهذا لا يجوز في الكلام، لأنّه إذا نوّن الاسم لم يتّصل به المضمر، لأنّ المضمر لا يقوم بنفسه، وإنّما يقع معاقباً للتنوين‏.‏ تقول‏:‏ هذا ضاربٌ زيداً غداً، وهذا ضاربك غدا، ولا يقع التنوين هاهنا، لأنه لو وقع لا نفصل المضمر‏.‏ وعلى هذا قول الله عزّ وجل‏:‏ ‏{‏إنّا منجّوك وأهلك ‏.‏

وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة - وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المتقنين يجيز مثل هذا في الضرورة، لما ذكرت لك من انفصال الكناية - والبيتان اللذان رواهما سيبويه‏:‏ الطويل

هم القائلون الخير والآمرونه *** إذا ما خشوا يوماً من الأمر معظما

وأنشد‏:‏ الطويل

ولم يرتفق والناس محتضرونه *** جميعاً وأيدي المعتفين رواهقه

وإنّما جاز أن تبيّن الجركة إذا وقفت في نون الاثنين والجمع، لأنه لا يلتبس بالمضمر، تقول‏:‏ هما رجلانه وهم ضاربونه إذا وقفت؛ لأنه لا يلتبس بالمضمر، إذ كان لا يقع هذا الموقع، ولا يجوز أن تقول‏:‏ ضربته وأنت تريد ضربت والهاء لبيان الحركة، لأنّ المفعول يقع في هذا الموضع فيكون لبساً‏.‏

فأمّا قواهم‏:‏ ارمه واغزه فلتلحق الهاء لبيان الحركة، فإنّما جاز ذلك لما حذفت من أصل الفعل، ولا يكون في غير المحذوف‏.‏

وقوله‏:‏ في رأس ذياله ، يعني فرساً انثى وحصاناً‏.‏ والذّيال‏:‏ الطويل الذنب‏.‏ وإنّما يحمد منه طول شعر الذنب وقصر العسيب، فأما الطويل العسيب فمذموم‏.‏ كلام المبّرد‏.‏

قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل‏:‏ ليس ما أصّل بصحيح، ولا لازم، قد قالوا‏:‏ ضربتنه وهلمّه، يريدون‏:‏ ضربتنّ وهلمّ، والمفعول يقع هاهنا‏.‏ وما ذكرته مذكور في كتاب سيبويه‏.‏

وأنشد‏:‏ يا أيها الناس ألا هلمّه والمفعول يقع هذا الموقع‏.‏

وقوله لطلحة بن حبيب، اللام للابتداء، وطلحة مبتدأ واندى خبره‏.‏ والسؤال‏:‏ استدعاء معرفةٍ وما يؤدي إليها، استدعاء مال وما يؤدي إليه‏:‏ فاستدعاء المعرفة جوابها باللسان، وتنوب عنه اليد، فاليد خليفة عنه بالكتابة والإشارة‏.‏ ويتعدّى لاثنين ثانيهما بنفسه تارة، وبحرف الجرّ أخرى، وهو عن، وتنوب عنها الباء‏.‏

واستدعاء المال جوابه باليد، وتنوب عنه اللسان بوعدٍ وردّ، ويتعدّى بنفسه وبمن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألتموهنّ متاعاً ، وقال‏:‏ واسئلوا الله من فضله ‏.‏ كذا في مفردات القرآن للسمين‏.‏ وأندى‏:‏ أفعل تفضيل من النّدى، وهو السّخاء‏.‏ وفند ، بكسر الفاء وسكون النون‏:‏ اسم رجل‏.‏ والرّبق ، بكسر الراء وسكون الموحدة‏:‏ حبل فيه عدّة يشدّ به البهم، كلّ عروةٍ ربقة بالكسر والفتح، والجمع كعنب‏.‏ والبهم ، بفتح الموحدة وسكون الهاء‏:‏ ولد الضأن والمعز والبقر، وقيل صغار الإبل‏.‏ والأحمال‏:‏ جمع حمل، بفتح الحاء المهملة والميم‏:‏ الخروف، وقيل هو الجذع، أي‏:‏ الشابّ من اولاد الضّأن فما دونه‏.‏

جعل بيت طلحة مظروفاً في العزّ والمكرمة، وبيت فندٍ منتهياً إلى ما ذكر؛ وأراد أنّ البيت الأوّل مملوء بالخيل وبها يكون العزّ، والبيت الثاني بيت ذلّ وهوان، لأنّ اقتناء الخرفان عندهم يدلّ على الفقر والضعف، وأنّ بيتهم إنّما هو مربط للبهائم‏.‏

وقوله‏:‏ ألا فتى من بني ذبيان الخ ألا هنا للعرض والتخصيص، وفتىً‏:‏ منصوب بفعل يفسّره يحملني، ومنصوب بمحذوف، أي‏:‏ ألا ترونني فتى هذه صفته، كما قال الخليل في قوله‏:‏ ألا رجلاً جزاه الله خيراً ولا يجوز أن تكون للتمني، فيكون فتى مبنياً معها على الفتح، لوجود الخبر وهو يحملني، فإنّ التي للتمنيّ لا خبر لها لفظاً ولا تقديراً، والمعنى أيضاً لا يساعد في جعلها للتوبيخ وللاستفهام عن النفي، فإنّه بعيد‏.‏ ولا معنى لجعلها هنا للتنبيه‏.‏ ويحملني‏:‏ من حمله‏:‏ إذا أعطاه دابّةً تحمله‏.‏ وحمّال هنا مبالغة حامل، بالمعنى المذكور‏.‏ وحاملني، فيمن رواه، خب ليس مقدّم وما بعد إلاّ اسمها، وعلى رواية ليس يحملني اسمها ضمير الشأن‏.‏

وقوله‏:‏ فقلت، التاء مضمومة‏.‏ وعمدت‏:‏ قصدت‏.‏

وقوله‏:‏ مستيقناً أنّ حبلي الخ ، هو حال من فاعل أمشي‏.‏ ويعلقه‏:‏ مضارع أعلق حبله إذا امكنه أن يعلق حبله ويربطه به‏.‏ وعسيب الذنب‏:‏ منبته من الجلد والعظم‏.‏ والمعروف أنّه لا يقال ذيّال إلاّ أن يكون مع طول الذنب طويلاً في نفسه، فإن كان طويل الذنب فقط فهو ذائل‏.‏

ومخلّم السعديّ، بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر اللام المشدّدة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السادس والتسعون بعد المائتين

وهو من أبيات س‏:‏ الطويل

هم الفاعلون الخير والآمرونه *** إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما

على أنّه قد جمع في قوله الآمرونه النون والضمير ضرورة، وصوابه والآمروه بحذف نون الجمع للإضافة، فإنّ حكم الضمير أن يعاقب النون والتنوين، لأنّه بمنزلتها في الضعف والاتصال، فهو معاقب لهما إذ كان المظهر مع قوّته وانفصاله يعاقبهما‏.‏

قال أبو جعفر النحّاس‏:‏ هذا خطأ عند المبّرد، لأنّ المجرور لا يقوم بنفسه ولا ينطق به وحده، فإذا أتى بالتننوين فقد فصل ما لا ينفصل وجمع بين زائدين‏.‏ وهذا لا يلزم سيبويه منه غلط، لأنّه قد قال نصّاً‏:‏ وزعموا أنّه مصنوع‏.‏ فهو عنده مصنوع لا يجوز، فكيف يلزمه منه غلط‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يبعد أن يكون من باب الحذف والإيصال، والأصل والآمرون به، فحذفت الباء واتّصل الضمير به، فإنّ أمر يتعدّى إلى المأمور بنفسه، وإلى المأمور به بالباء، يقال‏:‏ أمرته بكذا‏.‏ والمأمور هنا محذوف، أي‏:‏ الآمرون الناس بالخير، فيكون الضمير منصوباً لا مجروراً‏.‏

يقول‏:‏ هؤلاء يفعلون الخير ويأمرون به، في وقت خشيتهم الأمر العظيم من حوادث الدّهر، فلا يمنعهم خوف الضرر عن الأمر بالمعروف‏.‏

وقد رواه المبّرد فيما سبق النقل عنه بما يقرب مما هنا‏.‏

وروي في المفصّل وغيره‏:‏

هم الآمرون الخير والفاعلونه *** إذا ما خشوا من حادث الدّهر معظم

والمعظم‏:‏ اسم مفعول، وهو الأمر الذي يعظم دفعه‏.‏ وقد روى الجوهريّ في هاء السكت المصراع الثاني كذا‏:‏ إذا ما خشوا من معظم الأمر مفظعا وهو اسم فاعل من أفظع الأمر إفظاعاً، ومثله من فظع الأمر فظاعة‏:‏ إذا جاوز الحدّ في القبح‏.‏ وخشوا بضمّ الشين، وأصله خشيوا بكسرها، فحذفت الكسرة ونقلت ضمّة الياء إليها ثم حذفت الياء الساكنين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السابع والتسعون بعد المائتين

وهو من أبيات س‏:‏ الطويل

ولم يرتفق والنّاس محتضرونه *** جميعاً وأيدي المعتفين رواهقه

لما تقدّم قبله، وهو أنّه قد جمع النون والضمير في قوله‏:‏ محتضرونه ضرورة‏.‏

والكلام فيه كما تقدّم في الذي قبله، فمن جعل الهاء ضميراً جعلها ضمير الممدوح، ومن جعلها للسكت فإنّه احتاج إلى تحريكها‏.‏

وفيه أنّ حضر واحتضر إن كان معناه ضدّ غاب فهو لازم، وغير هذا مردٌ هنا‏.‏ وإن كان بمعنى شهد فهو متعدّ، وهذا هو المراد‏.‏ يقال‏:‏ حضرت القاضي، أي‏:‏ شهدته‏.‏

وفي القاموس‏:‏ حضر كنصر وعلم حضوراً وحضارة‏:‏ ضدّ غاب كاحتضر وتحضّر، ويتعدى يقال وتحضّره‏.‏ انتهى‏.‏

وعلى هذا فالضمير منصوب على المفعولية، لا أنّه مضاف إليه‏.‏ ومحتضرون عامل النصب فيه، لوجود شرط عمل النصب، وهو جمع محتضر‏.‏ والارتفاق‏:‏ الاتكاء على المرفق؛ أي‏:‏ لم يشتغل عن قضاء حوائج الناس‏.‏ ويحتمل أنّ المعنى لم يرتفق بماله، أي‏:‏ لم يبذله بالرفق بل جار عليه بالجود‏.‏ والمعتقون‏:‏ الذين يأتون يطلبون المعروف والإحسان، يقال عفوته، أي‏:‏ أتيته أطلب معروفه‏.‏ والرّواهق‏:‏ جمع راهقة، من رهقه من باب تعب، إذا غشيه وأتاه‏.‏ ورهقه بمعنى أدركه وقرب منه أيضاً‏.‏ والهاء يجوز أن تكون ضميراً وأن تكون للسكت‏.‏

وهذا البيت أيضاً مصنوع‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

 

الشاهد الثامن والتسعون بعد المائتين‏:‏ الحافظو عورة العشيرة

على أنّ الضمير بعد الوصف ذي اللام المثنّى والمجموع، يحتمل عند سيبويه أن يكون مجروراً على الإضافة، ومنصوباً، كما ورد الظاهر منصوباً بعده‏.‏

قال ابن السرّاج في الأصول‏:‏ وقد أجازوا‏:‏ رأيت الضاربي زيداً؛ وليس ذلك بحسن، وإنّها جواز ذلك على أنّك أردت النون فحذفتها لطول الاسم، كما تقول‏:‏ الذي ضربت زيد فتحذف الهاء من ضربته وأنت تريدها‏.‏ وحذف النون من الضّاربين والضّاربين مع الإعمال قبيح، قال الشاعر‏:‏

الحافظو عورة العشيرة ل *** يأتيهم من ورائنا نطف

ولو جرّوا لكان الجيّد الصواب وقال ابن خلف‏:‏ الشاهد فيه أنّه حذف النون من الحافظون ، ونصب عورة العشيرة بما في الصلة، فكأنه قال‏:‏ الذين حفظوا عورة العشيرة‏.‏ ولم يحذفها للإضافة، إنّما حذفها تخفيفاً مع ما فيه الألف واللام‏.‏

وقال ابن جنّي‏:‏ حذفوا النون تشبيهاً لهذه الأسماء المتمكّنة غير الموصولة بالأسماء الموصولة، لأنّها في معنى الموصولة‏.‏

قال أبو عليّ‏:‏ والأكثر الجرّ، وقرأ بضعهم‏:‏ والمقيمي الصّلاة بنصب الصّلاة، وحكى أبو الحسن عن أبي السماك‏:‏ واعلموا أنكم غير معجزي الله وليست فيه ألف لام حتّى يشبّه بالذين‏.‏

وقرأ بعضهم أيض‏:‏ إنّكم لذائقوا العذاب الأليم بالنصب‏.‏ وقرأ عمارة بن عقيل‏:‏ ولا اللّيل سابق النّهار بنصب النهار‏.‏ والأشبه في هذا أن يكون حذف التنوين لالتقاء الساكنين‏.‏

وروي‏:‏ الحافظو عورة العشيرة بجرّ العورة على أنّ الحافظو مضاف؛ فيكون سقوط النون للإضافة‏.‏ وقوله‏:‏ الحافظو صوابه والحافظو بالواو، فإنّه معطوف على خبر مبتدأ في بيت قبله كما سيأتي‏.‏ وبه يسقط قول ابن خلف‏:‏ الحافظو مرفوع بالابتداء وعلى الخبر، وهو مدح كأنّه قال‏:‏ هم الحافطون عورة العشيرة، فحذف المبتدأ، والحافظو عورة العشيرة هم فحذف الخبر‏.‏

هذا كلامه؛ ولا ينبغي أن يكتب قبل أني يقف على السّياق والسّباق‏.‏ ثم بعد فصل أنّ المبتدأ يحذف في خمسة مواضع، والخبر يحذف في اثني عشر موضعاً، ثم أخذ في بيان أل الموصولة، وأل المعرّفة وأنّها سبعة أقسام، واستوفى الكلام على الجميع‏.‏ وهذا كلّه كلّه تطويل لا طائل له‏.‏ والعورة‏:‏ المكان الذي يخاف منه العدوّ‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ كلّ مخوف عورة‏.‏ وقال كراع‏:‏ عورة الرجل في الحرب ظهره‏.‏ والعشيرة‏:‏ القبيلة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع عشيرات وعشائر‏.‏ كذا في المصباح‏.‏

ولا يناسبه قول العينيّ هن‏:‏ وعشيرة الرّجل‏:‏ الذين يعاشرونه ‏.‏ والنّطف بفتح النون والطاء المهملة، قال صاحب العباب‏:‏ قال الفرّاء‏:‏ النطف العيب، وقال الليث‏:‏ النطف‏:‏ التلطّخ بالعيب‏.‏

وروي بدله الوكف بفتح لواو والكاف أيضاً، قال صاحب العباب‏:‏ هو العيب والإثم‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وهذا المعنى الثاني أورده أبو عبيد في الغريب المصنف قال‏:‏ وكف وكفاً من باب فرح‏.‏

وقد ردّه عليه أبو القاسم عليّ بن حمزة البصريّ في كتاب التنبيهات على أغلاط الرّواة بأنّ الوكف إنّما هو العيب‏.‏ وانشد هذا البيت‏.‏

وكذلك قال ابن قتيبة في أدب الكاتب وأنشد هذا البيت‏.‏

قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل، وأبيات أدب الكاتب ، وتبعه ابن هشام اللّخميّ في شرح أبيات الجمل‏:‏ المعنى نحن نحفظ عورة عشيرتنا فلا يأتيهم من ورائنا شيء يعابون به‏:‏ من تضييع ثغرهم، وقلة رعايته‏.‏ هذا على رواية‏:‏ من ورائنا ‏.‏

ومن روى‏:‏ من ورائهم أخرج الضمير مخرج الغيبة على لفظ الألف واللام لأنّ معنى الحافظو عورة‏:‏ نحن الذين يحفظون، كما تقول أنا الذي قام، فتخرج الضمير مخرج الغيبة، وإن كنت تعني نفسك، لأن معناه أنا الرجل الذي قام‏.‏ وقد يقولون أنا الذي قمت‏.‏ فعلى هذا رواية من روى‏:‏ من ورائنا ‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ قوله‏:‏ من ورائنا، أي‏:‏ من غيبنا، فكنى بوراء عن ذلك فامتدح بحفظهم عورة قومهم بظهر الغيب، وأمنهم من ناحيتهم كلّ نقض وعيب‏.‏ ويجوز أن يعني من وراء حفظنا إياهم وذّبنا عن حماهم، فحذف المضاف الذي هو حفظ، واقام المضاف إليه مقامه‏.‏ ومن روى‏:‏ من ورائهم فالمعنى فيه أوضح، وحمل الضمير على العشيرة أرجح‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لعمرو بن امرئ القيس الخزرجيّ، وهي هذه‏:‏

يا مال والسيّد المعمّم قد *** يطرأ في بعض رأيه السّرف

خالفت في الرأي كلّ ذي فخر *** والحقّ يا مال غير ما تصف

يا مال والحقّ قد قنعت به *** فالحقّ فيه لأمرنا نصف

لا ترفع العبد فوق سنته *** والحقّ نوفي به ونعترف

إنّ بجيراً مولّى لقومكم *** يا مال والحقّ عنده فقفوا

أوتيت فيه الوفاء معترف *** بالحقّ فيه فلا تكن تكف

نحن بما عندنا وأنت بم *** عندك راضٍ والرّأي مختلف

نحن المكيثون حيث نحمد بال *** مكث ونحن المصالت الأنف

والحافظو عورة العشيرة ل *** يأتيهم من ورائنا وكف

والله لا تزده كتيبتن *** أسد عرينٍ مقيدها الغرف

إذا مشينا في الفارسين كم *** تمشي جمالٌ مصاعبٌ قطف

نمشي إلى الموت من حفائظن *** مشياً ذريعاً وحكمنا نصف

إن سميراً أبت عشيرته *** أن يعرفوا فوق ما به نصف

وتصدر الخيل وهي جافلةٌ *** تحت هواها جماجمٌ خفف

وتجرعوا الغيظ ما بدا لكم *** فهارشوا الحرب حين تنصرف

إنّي لأنمى إذا انتميت إلى *** عزٍّ منيع وقومنا شرف

بيضٌ جعادٌ كأنّ أعينهم *** يكحلها في الملاحم السّدف

قوله‏:‏ يا مال ، هو منادى مرخّم مالك بن العجلان‏.‏ والعمامة عند العرب لا يلبسها إلا الأشراف، والعمائم تيجان العرب‏.‏ وطرأ الشيء يطرأ طرآنا مهموز، أي‏:‏ حصل بغتة‏.‏ والسّرف ، بفتحتين‏:‏ اسم الإسراف، وهو مصدر أسرف إسرافاً إذا جاوز القصد‏.‏ والفخر ، بفتحتين‏:‏‏:‏ لغة في الفخر بسكون الخاء، وهو الافتخار وعدّ القديم‏.‏ والنّصف‏:‏ العدل والاستقامة‏.‏ والسّنّة‏:‏ الطريقة‏.‏ وبجير بضم الموحدة وفتح الجيم‏.‏ وتكف‏:‏ مضارع ركف وكفاً من باب فرح‏:‏ إذا جار عدل عن الحقّ‏.‏

وقوله‏:‏ نحن بما عندنا الخ هذا من وشاهد النحاة والمعانيّين، حذف فيه خبر نحن، أي‏:‏ رضوان، بدلالة خبر المبتدأ الثاني، وهو أنت راض بما عندك‏.‏

وقوله‏:‏ نحن المكيثون جمع مكيث فعيل من المكث وهو الانتظار واللّبث، أراد به هنا الصبّر والرّزانة؛ يقال‏:‏ رجلٌ مكيث، أي‏:‏ رزين‏.‏ والمكث بالفتح المصدر، وبالضم والكسر الاسم‏.‏ والمصالت‏:‏ جمع مصلت بكسر الميم، وهو الماضي في الأمور لا يهاب شيئاً‏.‏ وأنف بضمتين‏:‏ جمع آنف كضارب، من الأنفة وهي الحمية‏.‏

وقوله‏:‏ والحافظو عورة الخ ‏.‏ هو معظوف على المصالت، أي‏:‏ نحن نحفظ عشيرتنا من أن يصيبهم ما يعانون به‏.‏

وقوله‏:‏ لا تزدهي كتيبتنا الخ ، تزدهي‏:‏ تستخفّ‏.‏ والكتيبة من الجيوش‏:‏ ما جمع فلم ينتشر‏.‏ وهو مفعول والفاعل أسدّ‏.‏ والعرين ، بفتح العين وكسر الراء المهعملتين‏:‏ الغابة والأجمة، وهي مسكن الأسد‏.‏

وأضاف الأسد إليها لأنّها أشدّ ما تكون وهي في الغابة، ولا يقدر أحد أن يهجم عليها‏.‏ والغرف بضمتين‏:‏ جمع غريف بالغين المعجمة، وهي الغابة والأجمة أيضاً‏.‏

وقوله‏:‏ إذا مشينا في الفارسين أي‏:‏ بينهم‏.‏ والمصاعب ، بفتح الميم‏:‏ جمع مصعب بضمها وفتح ثالثه، هو الفحل الشديد؛ يقال‏:‏ أصعبت الجيل فهو مصعب إذا تركته فلم تركبه‏.‏ وقطف بضمتين‏:‏ جمع قطوف بفتح القاف‏:‏ البطيء، يقال‏:‏ قطفت الدايّة من باب قتل، إذا مشت مع تقارب الخطو‏.‏

وقوله‏:‏ من حفائظن‏:‏ جمع حفيظة، وهي الحميّة والغضب‏.‏ والذّريع ، بالذال المعجمة‏:‏ السريع‏.‏

وقوله‏:‏ وتصدر الخيل الخ ، وهنا بمعنى إلى‏.‏ وخفف بضمتين‏:‏ جمع خفيف‏.‏ والهراش‏:‏ مصدر هارش، وهو التحريش وتحريك الفتنة‏.‏

وقوله‏:‏ إنّي لأنمى إذا انتميت الأوّل بالبناء للمجهول يقال‏:‏ نميت الرجل إلى أبيه نميّاً‏:‏ إذا نسبته إليه؛ وانتهى هو‏:‏ انتسب‏.‏ وشرف ، بضمتين، أي‏:‏ أشراف‏.‏

وقوله‏:‏ بيض جعاد الخ ، البيض ، قال ابن السيد في شرح سقط الزّند‏:‏ العرب تمدح السادة بالبياض من اللون، وإنّما يريدون النقاء من العيوب؛ وربّما أرادوا به طلاقة الوجه؛ لأنّ العرب تجعل العبوس سواداً في الوجه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّا ‏.‏ والجعاد‏:‏ جمع جعد بفتح الجيم ويكون العين المهملة، وهو الكريم من الرجال‏.‏ والملاحم‏:‏ جمع ملحمة بالفتح‏:‏ القتال‏.‏ والسّدف ، بفتح السين والدال، هي الظلّمة في لغة نجد، والضوء في لغة غيرهم؛ يقول‏:‏ سواد أعينهم في الملاحم باقٍ، لأنّهم أنجادٌ لا تبرق أعينهم من الفزع فيغيب سوادها‏.‏ وعمرو بن امرئ القيس خزرجيّ جاهليّ، وهو جدّ عبد الله بن رواحه‏.‏

وكان السبب في القصيدة‏:‏ أنّه كان لمالك بن العجلان مولى يقال له بجير، جلس مع نفر من الأوس من بني عمرو بن عوف، فتفاخروا، فذكر بجيرٌ مالك بن العجلان ففضّله على قومه، وكان سيّد الحيّين في زمانه‏:‏ الأوس والخزرج، فغضب جماعةٌ من كلام بجير وعدا عليه رجلٌ من الأوس يقال له سمير من زيد بن مالك أحد بني عمرو بن عوف فقتله، فبعث مالك إلى بني عمرو بن عوف‏:‏ أن ابعثوا إليّ بسمير حتى أقتله بمولاي، وإلاّ جرّ ذلك الحرب بيننا‏.‏

فبعثوا إليه‏:‏ إنّا نعطيك الرضا فخذ منا عقله‏.‏ فقال‏:‏ لا آخذ إلاّ دية الصّريح - وهي عشرٌ من الإبل‏:‏ ضعف دية المولى، وهي خمس - فقالوا‏:‏ إنّ هذا منك استذلالٌ لنا وبغيٌ علينا‏؟‏‏!‏ فأبى مالكٌ إلاّ أخذ دية الصّريح، فوقعت الحرب بينهم فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى نال بعض القوم من بعض‏.‏

ثم إنّ رجلاً من الأوس نادى‏:‏ يا مالك، نشدتك الله والرّحم أن تجعل بيننا حكماً من قومك‏!‏ فارعوى مالكٌ وحكّموا عمرو بن امرئ القيس صاحب القصيدة التي ذكرناها فقضى لمالك بن العجلان بدية المولى، فأبى مالك وآذن بالحرب، فخذلته بنو الحارث لردّة قضاء عمرو‏.‏

وأنشد يقول‏:‏ المنسرج

إنّ سميراً أرى عشيرته *** قد حدبوا دونه وقد أنفوا

إن يكن الظّنّ صادقي ببني النّ *** جّار لا يطعموا الذي علفوا

لا يسلمونا لمعشر أبد *** ما دام منّا ببطنها شرف

لكن مواليّ قد بدا لهم *** رأيٌ سوى ما لديّ وضعفوا

بين بني جحجبى وبين بني *** زيدٍ فأنّى لجاريّ التّلف

يمشون بالبيض والدّروع كم *** تمشي جمالٌ مصاعبٌ قطف

كما تمشّى الأسود في رهج ال *** موت إليه وكلّهم لهف

وقال بعده عمرو بن امرئ القيس قصيدته التي شرحناها‏.‏

وقال درهم بن زيد أخو سمير‏:‏ المنسرح

يا قوم لا تقتلوا سميراً فإنّ *** القتل فيه البوار والأسف

لا تقتلوه ترنّ نسوتكم *** على كريمٍ ويفزع السّلف

إلى أن قال‏:‏

يا مال والحقّ إن قنعت به *** فينا وفيّ لأمرنا نصف

إنّ بجيراً عبدٌ فخذ ثمن *** والحقّ نوفي به ونعترف

ثمّ اعلمن إن أردت ظلم بني *** زيدٍ فإنّا ومن له الحلف

لنصبحن داركم بذي لجبٍ *** يكون له من أمانه عزف

البيض حصنٌ لهم إذا فزعو *** وسابغاتٌ كأنّها النّطف

والبيض قد فللت مضاربه *** بها نفوس الكماة تختطف

كأنها في الأكف إذ لمعت *** وميض برقٍ وينكشف

وقال قيس بن الخطيم من قصيدةٍ يجيبه ولم يحضر الوقعة ولا كان في عصره‏:‏ المنسرح

أبلغ بني جحجبى وقومهم *** خطمة أنّا وراءهم أنف

وأنّنا دون ما يسومهم ال *** أعداء من ضيم خطةٍ نكف

نفلي بحدّ الصّفيح هامهم *** وفلينا هامهم بها عنف

وبعد هذا ستة أبيات‏:‏ فردّ عليه حسان بن ثابت شاعر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا من تلك القصيدة‏:‏ المنسرح

دع ذا وعدّ القريض في نفرٍ *** يرجون مدحي، ومدحي الشّرف

إن تدع قومي في المجد تلقهم *** أهل فعال يبدو إذا وصفوا

إن سميراً عبدٌ طغى سفه *** ساعده أعبدٌ لهم نطف

ثم إنّهم تهيؤوا للحرب وتقاتلوا قتالاً شديداً، ومشت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين سنة في أمر سمير‏.‏

فلما طالت الحرب وكادت العرب يأكل بعضها بعضاً، أرسلوا إلى مالكٍ أن يحكموا بينهم ثابت بن المنذر أبا حسّان، فأجابهم إلى ذلك، فاتوه وقالوا‏:‏ قد حكّمناك بيننا‏.‏ قال‏:‏ لا حاجة لي في ذلك‏.‏ قالوا‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ أخاف أن تردّوا حكمي كما رددتم حكم عمرو بن امرئ القيس‏.‏

فأعطوه عهودهم‏:‏ أن لا يردّون ما حكم به، فحكم أن يودى حليف مالك دية الصّريح، ثم تكون السّنّة فيهم على ما كانت به‏:‏ الصّريح على ديته، والحليف على ديته؛ وأن يعدّوا القتلى التي أصابت بعضهم من بعض، فيقابل البعض بالبعض، ثم تعطى الدية لمن كان له فضلٌ في القتلى من الفريقين‏.‏ فرضوا بذلك ففضلت الأوس على الخزرج بثلاثة نفر، فودتهم الأوس واصطلحوا‏.‏‏.‏

وقيل‏:‏ الخمسة المكملة لدية الصّريح أعطاها ثابتٌ من عنده حين أبت عليه الأوس أن تؤدي أكثر من خمس، وأبى مالك أن يقبل أقلّ من عشر؛ إطفاءً لنائرتهم، ولمّا لشعثهم‏.‏

وقول مالك‏:‏ بين بني جحجبى الخ بحاء ساكنة بين جيمين مفتوحتين‏:‏ حيّ من الأوس، وكذلك بنو بدر‏.‏ والاستفهام للإنكار‏.‏

وقول قيس بن الخطيم‏:‏ أبلغ بني جحجبى وقومهم إلى آخره، خطمة بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء وبعدها ميم، هو عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس؛ قيل له لأنّه ضرب رجلاً بسيفه على خطمه، أي‏:‏ أنفه، فسميّ خطمة‏.‏

وجحجبى وخطمة‏:‏ حيّان لقبيلة قيس بن الخطيم، لأنّه أوسيّ‏.‏ والسّوم‏:‏ التكليف‏.‏ والخطّة بالضم‏:‏ الشأن والأمر العظيم‏.‏ ونكف ، بضمتين‏:‏ جمع ناكف، من نكفت من كذا، أي‏:‏ استنكفه وأنفت منه‏.‏

وعرف من إيرادنا لهذه القصائد ما وقع من التخليط بين هذه القصائد كما فعل ابن السيّد واللّخميّ في شرح أبيات الجمل ، وتبعهما العينيّ والعبّاسيّ في شرح أبيات التلخيص ‏.‏

فإنهم جعلوا ما نقلنا من شعر قيس بن الخطيم مطلع القصيدة، ثم أوردوا فيها البيت الشاهد وهو‏:‏ الحافظو عورة العشيرة والشاهد الثاني وهو‏:‏ نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ ، والحال أنّ هذين البيتين من قصيدة عمرو بن امرئ القيس‏.‏

ثم اختلف الناس في نسبة البيت الشاهد أعني‏:‏ الحافظو عورة العشيرة فنسبه التّبريزيّ في شرح إصلاح المنطق ، والجواليقيّ في شرح أدب الكاتب وابن برّيّ في حواشي صحاح الجوهريّ إلى عمرو من امرئ القيس، كما نسبناه نحن‏.‏

ونسبه ابن السيرافيّ في شرح أبيات الإصلاح لشريح بن عمروان من بني قريظة، قال‏:‏ ويقال‏:‏ إنّه لمالك بن العجلان الخزرجيّ‏.‏ ونسبه ابن السيد في شرح أبيات الجمل، وفي شرح أبيادت أدب الكاتب ، وابن هشام اللّخميّ في شرح أبيات الجمل ، وعلي بن حمزة في أغلاط الرّواة ، والعباسيّ في شرح أبيات التلخيص لقيس بن الخطيم‏.‏

والعجب من العينيّ أنه نقل عن اللّخميّ أنّه لعمرو بن امرئ القيس‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد التاسع والتسعون بعد المائتين

أنا ابن التّارك البكري بشر *** عليه الطّير ترقبه وقوعا

على أنّه عند المبرد لا يتبع مجرور ذي اللام إلاّ ما يمكن وقوعه موقع متبوعه‏:‏ فبشر عنده منصوب لا غير للحمل على محلّ البكريّ‏.‏

أنشده سيبويه بجرّ بشر على أنّه بدل وعطف بيان للفظ البكريّ وإن لم يكن في بشر الألف واللام‏.‏ وجاز ذلك عنده لبعده عن الاسم المضاف، ولأنّه تابع، والتابع يجوز فيه ما لا يجوز في المتبوع‏.‏

وغّلطه المبّرد وقال‏:‏ الرواية بنصب بشر‏.‏ واحتج بأنّه إنّما جاز أنا ابن التارك البكريّ، تشبيهاً بالضارب الرجل، فلما جئت ببشر وجعلته بدلاً صار مثل أنا الضارب زيداً، الذي لا يجوز فيه إلاّ النصب‏.‏

قال الزّجّاج‏:‏ الذي ذهب إليه سيبويه أن بشراً عطف البيان الذي يقوم مقام الصفة، يجوز فيها ما لا يجوز في الموصوف‏:‏ تقول يا زيد الظريف؛ ولا يجوز يا الظريف؛ وكذا أقول الضارب الرجل زيدٍ ولا أقول الضارب زيد‏.‏

قال النحاس‏:‏ وقد قال المبّرد في الكتاب الذي سمّاه الشرح‏:‏ القول في ذلك أن قوله‏:‏ أنا ابن التارك البكريّ بشرٍ عطف بيان؛ ولا يكون بدلاً، لأنّ عطف البيان يجري مجرى النعت سواء؛ ألاّ ترى بيان في باب النداء تقول‏:‏ يا هذا زيدٌ وإن شئت زيداً على عطف البيان فيهما‏.‏ وإن أردت البدل قلت زيد‏.‏ فهذا واضح جداً، لأنّك أزلت هذا وجعلت زيداً مكانه منادى‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا من المبرد رجوع إلى رواية سيبويه وإن كان خالفه في شيء آخر‏.‏

وقد أورده شرّاح ألفيّة ابن مالك بجرّ بشر على أنّه عطف بيان للبكريّ لا بدل؛ لأنه في حكم تنحية المبدل منه وحلوله محلّه‏.‏ والتارك إن كان من التّرك الذي بمعنى الجعل والتصيير فهو متعدّ لمفعولين‏:‏ الأول قد وقع مضافاً إليه، والثاني هو جملة عليه الطّير من المبتدأ والخبر‏.‏ وإن كان من الترك الذي بمعنى التخلية فهو متعدّ لمفعول واحد وهو المضاف إليه، فيكون الظرف أعني عليه حالاً من البكري، والطير فاعل الظرف والطير مبتدأ، وعليه الخبر، والجملة حال منه، وجملة ترقبه حال من الطير‏.‏

وأعربه الشارح في عطف البيان فقال‏:‏ عليه الطير ثاني مفعولي التارك، إن جعلناه بمعنى المصيّر، وإلاّ فهو حال‏.‏

وقوله‏:‏ ترقبه ، حال من الطّير إن كان فاعلاً لعليه، وإن كان مبتدأ فهو حال من الضمير المستكن في عليه‏.‏ انتهى‏.‏

ومعنى ترقبه أي‏:‏ تنتظر انزهاق روحه، لأنّ الطّير لا يقع على القتيل وبه رمق، ففيه حذف مضاف‏.‏

وقوله‏:‏ وقوعاً فيه أعاريب‏:‏ أجودها أنه مفعول له، أي‏:‏ تنتظر ازهاق روحه للوقوع عليه‏.‏

وقال الأعلم وتبعه ابن خلف إنه حال من الضمير في ترقبه‏.‏ ولو رفع على الخبر لجاز‏.‏ وقوعٌ عنده جمع واقع وهو ضدّ الطّائر‏.‏ وهذه الحاليّة لا تصحّ من جهة المعنى، لأنهّ لا معنى للانتظار بعد الوقوع على الميت‏.‏ ولو جعله حالاً من الطّير كما قاله بعضهم لكان صحيحاً وكان حينئذ فيه بيانٌ لقوله عليه الطير‏.‏

وقال ابن يعيش‏:‏ وقوعاً جمع واقع، وهو إما من الضمير المستكنّ في عليه، وإما من المضمر المرفوع في ترقبه‏.‏

وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل‏:‏ ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال‏.‏ ولم يعيّن صاحب الحال‏.‏ وقال بعض فضلاء العجم في إعراب أبيات المفصل‏:‏ ولا يبعد أن يجعل وقوعاً مصدراً ويكون منصوباً على البدل من الضمير الراجع إلى بشر في ترقبه، لأنّه في معنى وقوعاً عليه، فيتخصص نوع اختصاص ويكون من باب بدل الاشتمال‏.‏ هذا كلامه، وهو جيّد إلاّ أنّ فيه حذف الضمير‏.‏

وقال العينيّ‏:‏ قوله‏:‏ الطير، مبتدأ والجملة أعني قوله ترقبه خبره، وقد وقعت حالاً عن البكريّ، وقوله‏:‏ عليه يتعلق بقوله وقوعاً‏.‏ ولا يخفى ما في تعبيره من الاختلال، وكأنّه لم يبلغه منع تقدّم معمول المصدر مع هذا الفضل الكثير‏.‏

وهذا البيت للمرّار بن سعيد الفقعسيّ‏.‏ وبعده‏:‏

علاه بضربةٍ بعثت بليلٍ *** نوائحه وأرخصت البضوعا

وقاد الخيل عائدةً لكلبٍ *** ترى لوجيفها رهجاً سريعاً

عجيب لقائين صهٍ لقومٍ *** علاهم يفرع الشّرف الرّفيعا

بعثت أي‏:‏ نبهت من النوم، يقال‏:‏ بعثه، أي‏:‏ أهبّه، أي‏:‏ أيقظه‏.‏ والنوائح‏:‏ جمع نائحة، من ناحت المرأة على الميت نوحاً، إذا بكت عليه مع صراخ‏.‏ والبضوع إمّا جمع بضعة بفتح الموحدة وسكون الضاد المعجمة، وهي القطعة من اللحم؛ وإمّا جمع بضع بضمّ فسكون، يطلق على الفرج والجماع‏.‏

وروي بدله‏:‏ البضيعا بفتح فكسر، وهي اللحم‏.‏ والوجيف بالجيم‏:‏ مصدر وجف الفرس إذا عدا، وأوجفته إذا أعديته؛ وهو العنق في السير بفتحتين‏.‏ والرّهج‏:‏ الغبار‏.‏ وصهٍ أي‏:‏ اسكت سكوتاً ما‏.‏ ويفرع بالفاء والعين المهملة بمعنى يعلو، يقال‏:‏ فرعت الجبل إذا صعدته‏.‏

قال ابن السيرافيّ في شرح شواهد س‏:‏ بشر في قوله‏:‏ أنا ابن التارك البكريّ بشر، هو بشر بن عمرو بن مرثد؛ وقتله رجلٌ من بني أسد، ففخر المرّار بقتله‏.‏ وبشر هو من بني بكر بن وائل‏.‏ وأرخصت البضوعا، أي‏:‏ أرخصت الضربة اللحم على الطير‏.‏ والبضوع‏:‏ جمع بضعة، ويروى البضيعا ، وهو اللحم‏.‏

وزعم بعض الرواة أنه يريد بالبضوع بضوع نسائه، أي‏:‏ نكاحهنّ، يقول‏:‏ لما قتلوه سبوا نساءة فنكحوهنّ بلا مهر‏.‏ والبضوع‏:‏ النكاح‏.‏ والتفسير الأوّل أعجب إليّ‏.‏

قال أبو محمد الأعرابيّ الأسود في فرحة الأديب وقد تقدّمت ترجمته في أوّل الكتاب‏:‏ ما أكثر ما يرجّح ابن السيرافيّ الرديء على الجيّد والزائف على الجائز ؛ وذلك أنه مال إلى القول بأن البضوع هنا اللحم؛ ولعمري أنّها لو كانت لحوم المعزى والإبل لجاز أن يقع عليها الرّخص والغلاء وهذه غباوة تامة ‏.‏

والصواب لّما قتلوه عرضوا نساءه للسّباء، لأنه لم يبق لهنّ من يحميهنّ ويذود عنهنّ‏.‏ ثم إنّه لم يذكر قاتل بشر من أيّ قبائل بني أسد كان ‏؟‏ وإذا لم يعرف حقيقة هذا ولم يدر لأيّ شيء افتخر المرّار بذلك‏.‏

وقاتله سبع بن الحسحاس الفقعسيّ، ورئيس الجيش بني أسد ذلك اليوم خالد بن نصلة الفقعسيّ، وهذا جدّ المرّار بن سعيد بن حبيب بن خالد بن نضلة ‏.‏ انتهى ومن العجائب قول العينيّ‏:‏ أراد ببشر بن عمرو وكان قد جرح ولم يعلم جارحه، يقول‏:‏ أنا ابن الذي ترك بشراً بحيث تنتظر الطيور أن تقع عليه إذا مات هذا كلامه‏.‏

وليت شعري كيف يفتخر الشاعر بقتيل جهل قاتله‏!‏ فإن قلت‏:‏ فعلى قول الأسود الأعرابيّ قاتله سبع بن الحسحاس، كيف افتخر المرّار به مع أنه ليس بأب من آبائه ولا مّمن ينتسب إليه‏؟‏ قلت‏:‏ افتخاره بجده خالد بن نضلة فإنه كان أمير الجيش، وسبعٌ المذكور كان من أفراد عسكره ومأموراً له، والفعل لسبع والاسم لخالد‏.‏

قال أبو محمد الأعرابيّ‏:‏ وكان من حديث هذا اليوم - وهو يوم قلاب -‏:‏ أنّ حيّا من بني الحارث بن ثعلبة بن دودان غزوا وعليهم خالدٌ جدّ المرّار المذكور فاعترض بشر بن عمرو لآثارهم، فلما وصل إليهم قال‏:‏ عليكم القوم‏.‏ قال ابنه‏:‏ إنّ في بني الحارث بن ثعلبة بني فقعس، وإن تلقهم تلق القتال‏.‏ فقال‏:‏ اسكت، فإنّ وجهك شبيه بوجه أمّك عند البناء‏!‏ فلمّا التقوا هزم جيش بشر فاتّبعه الخيل حتّى توالى في إثره ثلاثة فوارس، فكان أوّلهم سبع بن الحسحاس، وأوسطهم عميلة بن المقتبس الوالبيّ، وآخرهم خالد بن نضلة، فأدركت نبل الوالبيّ الأوسط فرس بشر ابن عمرو برميّة عقرته، ولحقه سبعٌ فاعتنقه، وجاء خالد وقال‏:‏ يا سبع، لا تقتله فإنّا لا نطلبه بدم، وعنده مال كثير وهو سيد من هو منه ‏.‏ وأتتهم الخيل، فكلّما مرّ به رجلٌ أمره بقتله فيزجر عنه خالد‏.‏

ثمّ إنّ رجلاً همّ أن يوجّه إليه السّنان، فنشر خالدٌ على ركبتيه وقال‏:‏ اجتنب أسيري‏!‏ فغضب سبع أن يدّعيه خالد، فدفع سبعٌ ف ينحر بشر فوقع مستلقياً، فأخذ برجلة ثم أتبع السيف فرج الدّرع حتّى خاض به كبده، فقال بشر‏:‏ أجيروا سراويلي فإنّي لم أستعن‏.‏ وعمد إلى فرسه فاقتاده‏.‏ انتهى‏.‏ والمرّار بفتح الميم وتشديد الراء المهملة الأولى، ينسب تارة إلى فقعس وهو أحد آبائه الأقربين، وتارة إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهو جدّه الأعلى‏.‏

وهذه نسبته من المؤتلف والمختلف للآمذي‏:‏ المرّار بن سعيد بن حبيب ابن خالد بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بتقديم الجيم المفتوحة على الحاء المهملة الساكنة بن قفعس بن طريف، الشاعر المشهور‏.‏

ثمّ ذكر بعد هذا خمسة من الشعراء، من يقال لهم المرّار‏.‏

والمرّار بن سعيد من شعراء الدولة الأموية، وقد أدرك الدولة العبّاسيّة‏.‏

قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ كان المرّار بن سعيد الأسديّ يهاجي المساور بن هند، وكان قصيراً مفرط القصر ضئيلاً‏.‏

تتمة هذا المعنى أعني تتبّع الطّير للجيش الغازي للأعداء حتّى تتناول من القتلى متداولٌ بين الشعراء قديماً وحديثاً، وأوّل من جاء به الأفواه الأوديّ في قوله‏:‏ الرمل

وترى الطّير على آثارن *** رأي عينٍ ثقةً أن ستمار

أي‏:‏ تأخذ الميرة من لحوم القتلى‏.‏ وأخذه النّابغة الذّيبانيّ فقال‏:‏ الطويل

إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقهم *** عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب

جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله *** إذا ما التقى الجيشان أوّل غالب

لهنّ عليهم عادةٌ قد عرفنه *** إذا عرض الخطيّ فوق الكواثب

والكاثبة من الفرس‏:‏ حيث تقع يد الفارس‏.‏ وأخذهالحطيئة فقال‏:‏ الطويل

ترى عافيات الطّير قد وثقت له *** بشبعٍ من السّخل العتاق منازله

وأخذه مسلم بن الوليد فقال‏:‏ البسيط

قد عودّ الطّير عاداتٍ وثقنبه *** فهنّ يتبعه في كلّ مرتحل

ثم تبعه أبو نواس وإن كان في عصره‏:‏

تتأيّا الطّير غدوته *** ثقة بالشّبع من جزره

ثم أخذه أبو تمام فقال‏:‏ طالطويل

وقد ظلّلت عقبان راياته ضحىً *** بعقبان طيرٍ في الدّماء نواهل

أقامت مع الرّايات حتّى كأنّه *** من الجيش إلاّ أنّها لم تقاتل

وكلّهم قصرّ عن النابغة، لأنّه زاد في المعنى فأحسن التركيب، ودلّ على أنّ الطير إنّما أكلت أعداء الممدوح وكلامهم محتمل وإنّ كان أبو تمام قد زاد في المعنى‏.‏ على أنّ الطّير إذا شبعت ما تسأل‏:‏ أيّ القبيلتين الغالب‏؟‏ وقد أحسن المتنبيّ في قوله‏:‏ الطويل

له عسكرا خيلٍ وطيرٍِإذا رمى *** بها عسكراً لم تبق إلاّ جماحمه

وقال أبو عامر‏:‏ الطويل

وتدري كماة الطّير أنّ كماته *** إذا لقيت صيد الكماة سباع

وتطير جياعاً فوقه وتردّه *** ظباه إلى الأوكار وهي شباع

وقد أخذ هذا المعنى مروان بن أبي الجنوب، فقال يمدح المعتصم‏:‏ البسيط

لا تشبع الطّير إلاّ في وقائعه *** فأينما سار سارت خلفه زمراً

عوارفاً أنّه في كلّ معتركٍ *** لا يغمد السّيف حتّى يكثر الجزرا

فأخذه بكر بن النّطاح فقال‏:‏ مجزوء الكامل

وترى السّباع من الجو *** رح فوق عسكرنا جوانح

ثقةً بأنا لا نز *** ل نمير ساغبها الدّبائح

وأخذه ابن جهور فقال‏:‏ البسيط

ترى جوارح طير الجوّ فوقهم *** بين الأسنّة والرّايات تختفق

وأخذه آخر فقال‏:‏ الطويل

ولست ترى الطّير الحوائم وقّع *** من الأرض إلاّ حيث كان مواقعا

ومنه قول الكميت بن معروف‏:‏ الوافر

وقد سترت أسنّته المواضي *** حديّا الجوّ والرّخم السّغاب

ومنه قول ابن قيس الرّقيّات‏:‏ البسيط

والطير إن سار سارت فوق موكبه *** عوارفاً أنّه يسطو فيقريها

وأخذه عبّاس الخياط فقال‏:‏ السريع

يا مطعم الطّير لحوم العد *** فكلّها تثني على بأسه

وقال ابن نباته‏:‏ الطويل

إذا حوّمت فوق الرّماح نسوره *** أطار إليها الضّرب ما تنرقّب

وأبدع من هذا كلّه قول المتنبيّ‏:‏ البسيط

يطمع الطّير فيهم طول أكلهم *** حتّى تكاد على أحيائهم تقع

وقد جاء امرؤ القيس بهذا المعنى بوجه آخر فقال‏:‏ الطويل

إذا ما ركبنا قال ولدان أهلن *** تعالوا إلى أن يأتنا الصّيد نحطب

يقول‏:‏ قد وثقوا بصيد هذا الفرس فهم يهيؤون لمجيء صيده الحطب‏.‏

وأخذه حميد بن ثور الهلاليّ الصّحابيّ فقال في صفة الذّئب‏:‏ الطويل

ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي *** بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع

إذا ما إذا يوماً رأيت غيابةً *** من الطّير ينظرن الذي هو صانع

زأخذه ابن المعتز بلفظ امرئ القيس فقال‏:‏ الرجز

قد وثق القوم له بما طلب فهو إذا جلّى لصيدٍ واضطرب

عرّوا سكاكينهم من القرب وأنشد بعده‏:‏ وهو